خالد الإدريسي: هذه رسالتي للمحاميات والمحامين عبر ربوع الوطن

زملائي زملائي،
أيها المناضلات أيها المناضلون في ساحات العدل والقانون والحرية، شكرا لكم لقد أعدتم لرسالة الدفاع معانيها ورمزيتها
لقد أبنتم اليوم عن معدنكم الخالص والنقي، لقد أثبتم أنكم بالفعل نساء ورجال الدفاع، وتستحقون ارتداء البذلة السوداء وامتهان مهنة النبلاء.
لعمري، إن ما نعيشه اليوم والأيام القليلة الماضية وما سنضل نعيشه إلى أن تتم الاستجابة لمطالبنا، لهو ما كنا نردده ولا نستوعبه، إنها رسالة المحاماة ورسالة الدفاع في أبهى صورها وتجلياتها، إنها رسالة تمتح من الماضي والحاضر والمستقبل روح العدالة والمساواة وجميع القيم الكونية الثابتة والراسخة. لقد كنا نمارس في الماضي هذه الرسالة، لكن بنظرة ضيقة من خلال مساطر شكلية أفقدتنا المعاني الحقيقية لهذه الرسالة التي نحن مكلفون بحملها وأدائها. والآن في هذه اللحظات التاريخية المجيدة كنا محظوظين ونحن نستعيد معاني ورمزية رسالتنا النبيلة، رسالة الدفاع عن الحقوق والحريات ومواجهة الظلم والطغيان، بكلمة واحدة وبيد واحدة.

زميلاتي زملائي
لا شك أنكم أيها المناضلات والمناضلون الأشاوس تضررت مصالحكن ومصالحكم ومصالح موكليكم ومؤازريكم جراء عسكرة المحاكم ومنعنا من ولوج المحاكم لممارسة مهامنا واختصاصاتنا، ومن الأكيد أن آثار هذا المنع سيخلق لديكم جميعا أضرارا مادية في الحال والمستقبل، ولكن زميلاتي زملائي، لا تتجاهلوا أو تنسوا أن الربح المعنوي والرمزي جراء استرجاع وحدتنا وقوتنا وائتلافنا أهم من أي خسارة مادية بسيطة في إطار مسطرة من المساطر المعتادة. نعم زميلاتي زملائي، إن خسارة مساطر لا يعدو إلا أن يكون مجرد قطرة في بحر من الإيجابيات التي تحصلنا عليها، ولعل من أهمها الانتصار في المسطرة الكبيرة التي كنا نفشل دائما في تدبيرها وتستعصي علينا، وهي مسطرة الوحدة والتعبئة الشاملة والكلمة الواحدة واليد الواحدة، وهو انتصار لوحده كفيل بأن نسترجع من خلاله قوتنا ومكانتنا داخل المجتمع والدولة بكل ما سينتجه ذلك من مكاسب مادية ورمزية في الحال والمستقبل، وفي المعارك الأخرى التي تنتظرنا ضمن هذه الحرب الطويلة التي تتطلب الكثير من الإيمان والصمود والعمل.

زميلاتي زملائي
نعم، لقد كنا نلاحظ جميعا أننا نتعرض لضربات موجعة من الكثير من الجهات وعلى مستوى متعدد من الجبهات، وكل ذلك من أجل محاولة إضعاف مهنة الدفاع وجعل دورها ثانويا داخل منظومة العدالة، سواء على المستوى التشريعي ومشاريع القوانين الحالية لكل من قانون مهنة المحاماة وقانون المسطرة المدنية وقانون المسطرة الجنائية وقانون التنظيم القضائي وبعد القوانين الخاصة الأخرى كقانون المالية الذي منع التنفيذ الجبري للأحكام ضد الدولة وفرض نظاما ضريبيا لا يراعي دور المحاماة ورسالتها والوضع الهش الذي تعيشه أغلب فئات الزميلات والزملاء، وقوانين أخرى كثيرة لا يتسع المجال لذكرها. وأيضا على المستوى الاجتماعي من خلال محاولة إجهاض مكسب التعاضدية العامة لهيئات المحامين بالمغرب التي تعتبر تجربة متميزة في الأنظمة التعاضدية الخاصة ببلادنا وإجبارنا على الانخراط في مشروع الحماية الاجتماعية الذي ينتقص من حقوقنا وضماناتنا الاجتماعية. وعلى المستوى المهني من خلال التضييق على المؤسسات المهنية نقيبا ومجلسا من خلال منح صلاحيات أكبر للسلطة القضائية رئاسة ونيابة عامة للطعن والتعقيب على قرارات المؤسسات المهنية، بشكل يجعل هيبة النقيب والمؤسسة المهنية في مهب الريح، ناهيك عن سياسة إغراق المهنة بالمنخرطين الجدد وقبول ألاف الناجحين من دون وجود شروط موضوعية لاستقبال هذه الأعداد الهائلة.
لكن، كل الضربات السابقة التي تعرضت لها مهنة المحاماة كانت تتم بشكل تراكمي وغير مباشر، وكنا كجسم مهني نرفضها ونحتج عليها من دون أن تكون لدينا القدرة الفعلية على تغيير هذا الواقع. وساهمت التفرقة التي كنا نعيشها وانقسامنا إلى شيع وطوائف في عدم قدرتنا على التعبئة والنضال من أجل الضغط على الدولة للتراجع عن الكثير من المقتضيات التي ساهمت في إضعافنا ووهننا. لكن قرار إلزامية الإدلاء بالجواز الصحي كقيد من أجل ولوجنا كدفاع للمحاكم التي نعتبرها بيتنا ودارنا ومسجدنا، كان قرار صادم ومباشر وتصعيدي، لا سيما أنه تمت مواكبته بقرارات عنيفة كعسكرة المحاكم وتطويقها ومنع نقباء وأعضاء مجالس الهيئات من ولوج هذه المرافق العمومية التي تحوي في الكثير منها مكتب النقيب ومقر مجلس الهيئة. وبالتالي أصبح الصراع مباشرا والمواجهة محتدمة، بشكل عبر على أن الدولة تحاول اختبار مدى قوة الدفاع ومدى قدرته على التعبئة والصمود، ومدى إمكانية استيعاب هذه الضربة الكبيرة والمباشرة كما استوعب الكثير من الضربات غير المباشرة التي تقررت فيما سبق. وبالتالي فإن النقاش والصراع والمعركة الحالية ليس أساسها هو إجبارية الجواز من عدمه، مادام أن مرافق عمومية وخصوصية كثيرة مكتضة بالمرتادين والمرتفقين أكثر من المحاكم، ولم يتم إلزامها بإجبارية الإدلاء بالجواز الصحي. وهذا الأمر يجعلنا نجزم أن المعركة الحالية هي معركة كرامة وصمود ودفاع عن الدفاع، في مواجهة دولة وأجهزة تحاول إضعافها وقتلها ماديا ورمزيا، لا سيما أن الحصن الأخير الذي مازال قويا في المؤسسات المهنية والحقوقية هي مؤسسة الدفاع بنسائها ورجالها ونقبائها ومجالسها. وبالتالي فالمعركة ليست معركة إدلاء بجواز من عدمه، بل هي معركة وجود وقوة ورمزية.

زميلاتي زملائي،
بفضلكن وبفضلكم أعدنا للمحاماة رسالتها الحقوقية، واسترجعنا ذاكرة النقاشات الحقوقية التي كانت في مرحلتي الستينات والسبعينات، وتوصيات مؤتمرات جمعيتنا العتيدة جمعية هيئات المحامين بالمغرب كلها شاهدة على النقاش الحقوقي والسياسي الذي كان يبلوه نقبائنا وقيادمتنا، ونحن نعلم أنه فيما بعد في أواخر الثمانينات والتسعينات وبداية الألفية الثالثة كان نقاشا مهنيا صرفا حول مجموعة من القضايا المهنية وكان هناك تراجع على مستوى النقاش الحقوقي والسياسي، وفي مرحلة ثالثة أصبح النقاش اجتماعيا تعاضديا أمام الهشاشة التي أصبح يعيشها عدد كبير من الزميلات والزملاء، وبالتي أصبحت أنظمة التكافل الاجتماعي والتعاضد والتقاعد والمعيش اليومي ولقمة الخبز هي محور النقاش، و تم تجاوز النقاش الحقوقي والمهني، ولعل أزمة وباء “كوفيد” وما خلقته من صعوبات مالية لدى أغلب المحامين، رسخ هذا النقاش الاجتماعي الذي أصبح محور اهتمام الجسم المهني أفرادا ومؤسسات، وربما الشاهد على ذلك أن موضوع الدعم المباشر والنظام التكافلي إبان الحجز الصحي نتيجة انتشار وباء “كوفيد 19″، كان موضوع اهتمام أكبر بكثير من النقاش الحقوقي المرتبط بالاختلالات المسطرة والحقوقية التي يخلقها نظام المحاكمة عن بعد.
الآن زميلاتي زملائي، لقد استعدنا النقاش الحقوقي، وأجلنا النقاش المهني والاجتماعي، وهذا من الفضائل والمكاسب التي تحصلنا عليها بعد هذا القرار الثلاثي الظالم وغير المشروع. فجميع المحاميات والمحامين بالمغرب أصبح نقاشهم حقوقي بامتياز متعلق بضمان حق الدفاع وحق الولوج إلى العدالة وضمانات المحاكمة العادلة، وضحوا بملفاتهم وعائداتها المالية من أجل سواد عيون مهنة أعطتهم الكثير ويعطونها الآن القليل من التضحية ونكران الذات، لفائدة رابطة الدفاع والانتماء الذي يجمعنا من خلال مهنة النبلاء.

زميلاتي زملائي،
نحن من خلال موقفنا المبدئي الذي نناضل من أجله لا ندافع فقط عن أنفسنا ومهنتنا النبيلة ، ولكننا ندافع عن قيم مجتمعية مشتركة وطنية ودولية، تعترف الدولة بها وتتبناها في تشريعاتها، ولذلك فمعركتنا مشروعة ومؤسسة على أساس سليم من الناحية القانونية والحقوقية. كما ينبغي التذكير أن رسالتنا من خلال هذا النضال يتجاوز نطاقه مهنة الدفاع والمنتمين إليها، ليدافع عن المجتمع وعن حقه في الدفاع وفي الولوج المستنير للعدالة وفي مراعاة حقوقه ومصالحه في المساطر التي يكون طرفا فيها، كما أنه من خلال هذا الموقف ندافع عن القضاء وعن استقلاليته التي لطالما كنا سباقين للدفاع عنها وتوصيات مؤتمرات جمعيتنا شاهدة على ذلك في وقت كان القضاة لا يستطيعون التفكير في هذا الموضوع، فما بالك أن يطالبوا به أو يناضلوا من أجله، ومن خلال نضالنا هذا نؤكد للسلطة القضائية أنك إذا فرطت في استقلاليتها التي منحها لها الدستور بعد نضال المحامين بشكل أساسي والمجتمع الحقوقي بشكل عام، فإن الدفاع غير مستعد للتفريط في هذا الاستقلال، وبالتالي هي من خلال مواقفها الحالية تعيب على السلطة القضائية المساهمة في إصدار قرار إداري ينقص من هذه الاستقلالية ويدخل في إطار الفعل غير المشروع، ويقيد طرق الطعن فيه على اعتبار أن القضاء في هذه الحالة سيصبح خصما وحكما، كما أن هذه الوقفات النضالية تساهم في تقوية الدستور والقوانين، وفي تذكير الدولة بالتزاماتها القانونية والتشريعية، وفي احترام مبدأ تدرج القوانين وتراتبيتها، وفي الحفاظ على مبدأ استمرارية المرافق العمومية.

زميلاتي زملائي
قد نصل إلى اتفاق لحل هذه الأزمة بعد حوار ممثلينا مع ممثلي الجهات مصدرة الدورية الثلاثية، وقد يكون مضمون هذا الاتفاق محققا لأهم مطالبنا، ولا سيما جعل مهمة تدبير الولوج إلى المحاكم اختصاص خالص وخاص للسادة النقباء والمجالس بشكل حصري ومستقل، من دون تطلب الجواز الصحي ولا أي قيد أخر ينقص أو يعدم من الحق في الدفاع والحق في الولوج إلى العدالة، وفي حالة تحقق ذلك سنكون قد حققنا انتصار باهر سيكون حافزا مهما لتحسين صورة وموقع المحاماة داخل منظومة العدالة وداخل المجتمع والدولة، وسيكون له ما بعده في المستقبل القريب من انتصارات تشريعية وتدبيرية واقتصادية واجتماعية. وكما كنا ملتفين حول قادتنا النقباء في إعلان المعركة وتدبيرها، فيجب أن نبقى دائما في نفس الحس من المسؤولية وأن نلتف حول مؤسساتنا في كل ما قد يتفقون عليه من حلول لهذه الأزمة التي رغم أنها في بدايتها، فإنني أجزم أننا قد حققنا فيها انتصارا عظيما من الناحية المعنوية والرمزية، وهذا الأمر قد يعتبر كافيا في هذه المرحلة.

زميلاتي زملائي
لنبقى دائما وأبدا كتلة واحدة من أجل رفع الظلم والدفاع عن الحقوق والحريات، ولنستمر في الدفاع عن مهنتنا ومؤسساتنا، وأيضا في الدفاع عن سمو القانون واستقلالية القضاء وعن حقوق الأفراد والمجتمع. فرسالتنا تتجاوز الجسم المهني وقضاياه الخاصة لتلامس القيم الكبرى الكونية التي أكدت عليها المواثيق الدولية الإنسانية، هو إذن، نضال يبتدأ من داخلنا ويمتد إلى من حولنا ليرسم تاريخا مجيدا من الوحدة المهنية والتضامن من اجل الدفاع عن القضايا المهنية والقضايا الحقوقية الكونية. ومن الأكيد أن التاريخ سيذكر لنا هذه المعركة بمداد من الفخر والاعتزاز، لأننا فعلا أعدنا للمحاماة مكانتها الحقوقية والرمزية التي تستحقها.

الدكتور خالد الإدريسي، عضو مكتب جمعية هيئات المحامين بالمغرب

زر الذهاب إلى الأعلى