موسم الهجرة إلى الجنوب

إنها لعنة اللا استقرار التي أصابت أبناء الجنوب الشرقي حتى قبل أن يولدوا كما أصابت أجدادهم وآباءهم فكان قدرهم أن يقضوا حياتهم في سفر مستمر جيئة وذهابا. يطاردهم شبح البطالة وهم يطاردون لقمة العيش مهما كانت بعيدة ويأخذهم العلم والعلاج من بلدتهم المنسية، فيسافروا بحثا عن العمل والعلم والاستشفاء، يذهبون متفرقين كل في وجهته وبعد أشهر أو أعوام وعند مناسبة الأعياد الدينية والمناسبات العائلية يعودوا مجتمعين لوجهة واحدة يحملون معهم ما جادت به الأقدار لعائلاتهم، فلا تكاد تألف قلوبهم المكان حتى تناديهم حتمية الرحيل من جديد.

 

ستتحرك جحافل الحافلات والسيارات من جميع الجهات نحو الجنوب الشرقي لتنقل شعب بئيس اضطرته متطلبات الحياة للهجرة قصرا فتركوا عائلاتهم وفلذات أكبادهم على أمل اللقاء في مناسبة قريبة. هذا طالب علم وذلك طالب علاج وأولئك طالبوا رزق قد تغربوا لأشهر طويلة وعملوا بكد شديد واجتهاد لأنهم فقط من يدركوا واقعهم المرير، إنهم لا يقرؤون الجرائد ولا يستمعون لنشرات الأخبار الوطنية، لقد أدركوا مبكرا أن تلك البقعة التي هم محسوبون عليها منسية وليس لهم من الدولة أكثر من رقم بطاقتهم الوطنية وورقة في كناش الحالة المدنية، تعلموا أن كل المصطلاحات البراقة التي تصدح بها أبواق المخزن من تنمية و ديمقراطية وغيرها لم تستطع لحد الآن توفير ماء صالح للشرب وقطعة خبز وبعض الحليب قرب منزل العائلة، إنها طريق العودة الطويل بليله ونهاره تلبية لنداء العائلة على عجل ليحيوا فرحة العيد بين أحضانها، ليس مهم من أين أتوا أو كم ستكلفهم تلك الزيارة بل همهم الوحيد أن يفرح أم انفطر قلبها مرات عديدة عند كل فراق وزوجة ما عاشت كالزيجات وأبناء قدر لهم أن يتمنوا العيد ليلا ونهارا كي تلتقي أحضانهم بأحضان آباءهم.

 

كم أنت بعيد أيها الجنوب.. وطريقك وعرة وقاسية أحيانا، ثلج يمنع المسير ويزيد الجبل وعورة أو حرارة شمس تلفح الوجوه، وتلك الجبال الصماء كأنها تهيئ قلبك لأن يكون قاسيا وتحذرك من أن تتذمر مما ستلقاه، تقول لك إنسى من حيث أتيت ولا تتذكر الكثير منها، إنسى أنك مواطن وتذكر فقط أن لك وطن يجب أن تحميه قياما وقعودا واقعا، فرد وجماعة، هنا ليس لك إلا ما تحتاجه لتبقى على قيد الحياة فقط، هنا المعنى الحقيقي للوطن البكر الذي لم تمسه بطش الحضارة إلا بما جادت عليه الدولة من أعمدة كهرباء وبعض الإسفلت يسمونه افتراءا طريق، وبضع لافتات قد تبدو من حين لآخر، حين تمر بك تلك الحافلة المهترءة التي ليس فيها متسع لتمدد ساقك عندما تتعبك الصفيحة الحديدية التي تجلس عليها والمغلفة ببعض الثوب لتبدو ككرسي مريح، لا شأن لك أنت بتلك المؤشرات المربوطة قصرا على جنبات الطريق أكمل نومك العميق فنصفها يحذر السائق من خطر متعدد –إنتبه خطر محتمل- .
وأنت تستعد لركوب الحافلة اصرف تفكيرك إلا عن ابنك وأمك وأبوك ولا تحاول أن تقارن ما ستدفعه مقابل ما ستركبه.. احمل معك ما شئت إلا الوطنية التي وفكر بما شئت إلا بعدد الدريهمات التي تحملها لأسرتك.

 

أيها الجنوب البعيد .. كم يكفي أبناءك من مواسم الهجرة إليك؟ كم أنت بعيد حقا عن كل شيء؟ ثم إلى متى ستبقى بعيدا عن الكرامة عن الحضارة وعن تفكير أولي الأمر.

سعيد السباك

زر الذهاب إلى الأعلى