مسائية

في كل يوم أعود من الجامعة أمنا الإجتماعية التي أنجبتنا بطريقة أخرى و في شخصيات مغاير على دراجتي الهوائية أراوغ سيارات أبناء مالكي وسائل الإنتاج المتوقفة أمام الضوء الأحمر يسوقها شباب أو بالأحرى كتاكيت ينظرون إلي نظرة بَخْسَة، نفسها الموجهة للرؤوس السوداء التي ترتكن على جنبات الطريق و تطلب بعض الدرهام التي يفتقر إليها الأبناء الأصليين لهذا الوطن، تُذكرني نظرتهم بأستاذة الأولى ابتدائي حين كانت تُجلسني أمامها وتقدم لي القليلَ من بسكويتها وتداعبني بإبتسامة على وجهى الأبيض، لأسبح مع مخيلتي التي كانت تسعى إلى تذوق شئ آخر غير طعم البسكويت في تلك اللحظة،خيال لايتناسب وسني كطفل في عقده الأول يسكن حي كل أبنائه يرتدون المدرسة يوميا بنفس البدلة التي يميزها الحذاء البلاستيكي و الوزراة بدون أزرار ،المخاطة مرارا و تكرارا،و أسبوعيا يحجون السوق الذي نشتغل به إما بائعي الأكياس البلاستيكية او مقدمي خدمات للتجار أو لزبائنهم المفضلين، كـ “سوميا” المصرية التي تعودتُ أسبوعيا أن أحمل لها مقتنياتها و أسير ورائها متعثرا جراء الثقل و أتمايل كما يتمايل خصريها وصولا إلى منزلها؛ في مرة نسيت أن تنهيني عن الدخول كالمرات التي سبقتها فإغتنمت الفرصة لأقتحم الشقة التي لايدخلها الرجال القاعدين يوميا و طيلة الأسبوع على كراسي المقهى المتعطشة لرؤية ماوراء هودج باب شقتها،نادتها ثورية بضحكة مرتفعة “هالبعلوك دخل…” فصرخت بصوت عال “سوميا” “أخرج سير عند موك حتى لغدا و ندور معك” فأنزل الدرج مسرعا و أركد متجها إلى منزلي يد أمسك بها القطع النقدية و اليد أخرى سروالي الذي كان ينفلت تارة، منشغلا دهني بما رأيته لا أصدق عيناي التي لاتكذب و لاتنسى المشاهد المؤثرة حتى و لو كانت محصورة بين جفوني تبقى الصورة بارزة بألوانها الساطعة و بجودة واضحة،لمحت معلمتي التي تعودت رؤيتها على مكتبها المملوء على آخره بالأقلام و الأدوات و الدفاتر المصطفة بلون موحد و كرسيها المقدس الذي نهاب حتى الاقتراب منه فهو خشبة إعدام للكسالى و منصت شرف للمجتهدين،بمقامها هذا و مكانتها تكشف عيني المعلمة “رشيدة” و هي متهالكة على أريكة حاملة لسيجارة منتشية بحرقها، هول الصدمة أنساني حرمة المكان و المنع المعتاد لسوميا،أركد بدون وجهة بعدما اكتشفت أنها تدخن و انبهرت لعملية دخول الدخان و خروجه مستمتعا بدوق أحمر شفاه التي كانت تتميز به عن باقي زميلاتها في المدرسة،لا أحتمل التفكير أن سم القطران يسري في عروق الأستاذة، لا أقوى على التساؤل هل هي أيضا ستموت ؟فعمي “صالح” توفي جراء سم التدخين،لا أريد أن أخمن هل هي أيضا من الساقطات كما علمتني والدتي ،الساقطون و الساقطات هم من يلمسون السيجارة، نوايا كثيرة في برهة وجيزة أنستني حسن “رشيدة” و أناقتها و طيبوبتها معي حتى طعم البسكويت أصبح مرا تمنيت تبوأه فهو من يد تحمل السجارة،هنا تضمحل شكوكي حينما كانت تقطع الدرس أو تلهينا بكتابة مافي الصبورة و تخرج، كنت أظن أنها تواعد احد الأساتذة الشباب أو مرتبطة مع المدير في علاقة غير شرعية إلى أن خاب ظني، فخروجها المتكرر كان وفاء لنكوتين السجارة، لا أستطيع تصديق أن الوزارة البيضاء اللامعة على مدار المواسم الأربعة هي أيضا تحمل الرائحة الكريهة كرائحة الحاج عيسى الذي لايفارق “السبسي” يده و يبدر كل ما توفره ابنته من مصروف في تنمية استثمار بائع “الكيف” حتى هذه الأخيرة رصيدها المالي يذهب سدا ويطير كما يطير الدخان في فضاء شاسع ؟ منذ داك اليوم أخدت موقفا من السجارة و لم اعد أطع التجار بالسوق الذين يرسلونني الى جلب السجائر و أتجنب كل من اشتم رائحة الذخان بملابسه،و أكره كل أرعن سيطر عليه إدمانه و استحوذت عليه هذه القطعة الملفوفة،فسمها ابعد عني الكثيرين،و قتل من أحببتهم و شاجر بين من عاشرتهم،و فسخ “ولف” العديد،إلى أن نسيت كل هذا و محوت ذاكرتي و خذلت وعودي و رحت شارد التصميم و مجهول التصرف،لا أعرف الانضباط لنفسي و لا مثبتا فيما أفعله،بت ممن لا يتكلمون صباحا و لا تنطلق ممارسة حياتهم اليومية إلا بعد استنشاق مكوناتها و بلع دخانها الذي أضحيت أجد فيه ذوق أحلى من دوق الشكلاطة،لا أركز و أتكلم إلا و السجارة تتوسط أصابعي، اختلف رثم عيشي ولم أعد أعرف للنوم حضور إلى بعد تجوالي لمسافات تصل حد التنقل من حي إلى آخر فقط لأخد لفافة توديع اليوم،تغير مصروف جيبي و مظهر صحتي و شكل جسدي،كنت و أصبحت ضعيف البنية،هش العظام لجسم بشفتين سودوين لإنسان مرفوض،من دخول المحلات،”ممنوع التدخين” أقرأها ممنوع الدخول بلون أحمر براق،ولا أتنبه إلا إلى النصف الثاني من “…سجارتك تضرنا”. أوقف دراجتي الهوائية أمام مدخل دكان و اطلب سجارة و انا ضيق التنفس،السعال بدل السلام و لا قدرة على الإستمرار في السياقة و لا على المضي في هذا الخلاء،و هنا أتخد قرار الإقلاع و الإبتعاد عن مجالسة السجارة منذ هذا اليوم.

زر الذهاب إلى الأعلى