الاستشارة القانونية المجانية و ثقافة بيع الخدمات القانونية

د / خالد الإدريسي

يمكن تعريف الاستشارة القانونية بكونها طلب المشورة والرأي القانوني بخصوص مسالة معينة قد تكون أو لا تكون موضوع نزاع ، حيث يسعى من خلالها طالب الاستشارة إلى معرفة موقف القانون بخصوص الموضوع المطروح، مستعينا بالخبرة القانونية والتجربة العملية للمستشار الذي يعمل على بيان الحل القانوني والتصرف السليم الذي يتعين إتباعه لتحقيق الغاية من الاستشارة القانونية .

 

و تجد الاستشارة جذوتها و أهميتها في أن الإشكال القانوني في كثير من الأحيان لا يتطلب اللجوء إلى مساطر التقاضي أمام المحاكم , بل فقط معرفة وجهة نظر القانون في موضوع معين , بل أكثر من ذلك فان الاستشارة تشكل مرحلة مهمة في التوجيه نحو حل النزاعات عن طريق الوسائل البديلة لتسوية المنازعات , و تفادي المساطر القضائية بما تكتنفه من عيوب موضوعية و إجرائية .

 


و قد جعل المشرع المغربي الاستشارة القانونية حكرا على فئة معينة من الأشخاص هم المحامون , ذلك انه جعل من بين مهام الدفاع في المادة 30 من قانون المحاماة تقديم الاستشارات القانونية بتأكيده على أنه : ” يمارس المحامي مهامه بمجموع تراب المملكة … و تشمل هذه المهام : إعداد الدراسات و الأبحاث و تقديم الاستشارات و إعطاء فتاوى و الإرشادات في المجال القانوني … ” .

 


و قد أثار موضوع الاستشارة القانونية بالمغرب كما هو الشأن في دول أخرى , جدلا كبيرا , خاصة فيما يتعلق بالاستشارة القانونية المجانية , ذلك انه رغم تعاطي البعض لهذا النوع من الاستشارات لا سيما عن طريق وسائل الإعلام , و بالخصوص بعد تحرير قطاع السمعي البصري و ظهور العديد من القنوات و الإذاعات الخاصة , و أيضا ما تلاه من انتشار لوسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت مؤثرة في تكوين قناعة الرأي العام و التأثير عليه , إلا أن البعض الآخر رفض هذا النوع من الاستشارات المجانية , معتبرا أنها تخالف أعراف و تقاليد مهنة المحاماة , و تتعارض مع قاعدة أن عمل المحامي و اتصاله و تواصله مع زبنائه و موكليه مرتبط بمكتبه سواء في إطار عمله الأصلي المتمثل في النيابة و الدفاع و المؤازرة أو في إطار مهمة الاستشارة القانونية التي لا تقل أهمية عن الاختصاص الأصيل , كما أن هذه الاستشارة المجانية تنتج نوع من المنافسة غير المشروعة من خلال ترسيخها لنوع جديد من السمسرة المقنعة .

 

وقد صدر أخيرا منشور عن نقيب هيئة المحامين بالدار البيضاء ليؤجج الجدل حول هذا الموضوع , إذ أن السيد النقيب و أعضاء المجلس اتخذوا في أول أيام عملهم على رأس الهيئة بعد انتخابهم , قرارا صريحا و جريئا منعوا من خلاله المحامين المنخرطين داخل هيئته من تقديم استشارات قانونية مجانية عبر وسائل الإعلام , و قد تم تبرير المنع بناء على أسس الاتجاه المعارض المذكورة أعلاه .

 


و في حقيقة الأمر فان موضوع الاستشارة القانونية المجانية مرتبط ارتباطا وثيقا و جوهريا بغياب ثقافة بيع الخدمات عامة و بيع الخدمات القانونية بشكل خاص , التي لازالت مجهولة عند الكثيرين و مشكوكا فيها عند كثير من الناس في المغرب الذين لا يؤمنون سوى ببيع السلع و الأشياء المادية و الملموسة. وهكذا إذا منح شخص ما قمحا أو زيتا أو ما إلى ذلك من المواد المحسوسة , فإنه يعطيك في مقابل ذلك مالا، و لا تكون لديه أدنى مشكلة لأنه يرى المقابل الذي منح من أجله المال , لكن إذا ما تم تقديم خدمة سواء كانت قانونية أو مالية أو عقارية أو ما إلى ذلك من مجالات تحتاج إلى استشارات و توضيحات فإنه لا يكون مقتنعا بإعطاء مقابل مالي لهذه الخدمات , وربما الذي يجعل الشخص يقتنع بهذا الأمر أنه تكونت لدى أجيال كثيرة و متعاقبة ثقافة أن من يعطيك نصيحة أو إرشادا أو فتوى فإن المقابل يكون بالدعوة له بالخير والبركات ، أو كما نقول بالعامية المغربية ” الله يرحم الوالدين “.

 

وكأن هذه الدعوة سيؤدي بها المحامي أو المحاسب أو الخبير العقاري أو المالي أجور الموظفين والضرائب و باقي الالتزامات المالية التي تتقل كاهله . و لعل ابرز مثال عملي على ذلك هو حالة الوسيط العقاري ففي الموروث الثقافي الشعبي يعتبر السمسار أو الوسيط هو بمثابة النصاب و المستغل الذي يأخذ أموال بدون وجه حق ، بينما هو في القانون مؤسسة قانونية قائمة بذاتها ودورها الإجتماعي والإقتصادي لا يخفى باعتبارها من أهم محركات المعاملات التجارية و غير التجارية و من الظلم النظر إلي ممتهني هذا النشاط التجاري بهذه الصفة , و من الحرام أن لا تؤدى لهم أجورهم باعتبارهم « سمسارة و نصابة و كذابة » و هم على النقيض من ذلك فئة تساهم بخدماتها في تحريك عجلة التنمية داخل المجتمع , و تنشيط الرواج الاقتصادي و المالي .

 


و قد أبانت التجربة العملية أيضا من خلال العديد من حالات الموكلين و الزبناء الذين يمرون على مكاتب المحامين , أن العديد من الأشخاص يحصلون على استشارات قانونية في مسائل حاسمة تخص حياتهم الشخصية و المالية ، والغريب في الأمر أنه حينما يتم إخبار موكل أو زبون أن عليه أداء أتعاب الاستشارة القانونية تجد عليه علامات الدهشة والاستغراب بشكل يكون لديه قناعة أن المحامي المستشار يريد إبتزازه أو النصب عليه , لأنه مقتنع بأن الدعاء للسيد المحامي عند الله هو المقابل و ثواب الآخرة أحسن من ثواب الدنيا ، و كأن هذا الأخير درس سنوات عديدة و اجتاز امتحانات و اختبارات مهنية و تخطى إكراهات مادية و معنوية من أجل أن يحصل على المكانة التي أصبح عليها , فقط من أجل أن تنهال عليه الدعوات و الابتهالات كأتعاب و كمقابل عن الخدمات التي يقوم بها.

 


و بعكس المغرب و الدول العربية فإن الأمر مختلف في أوروبا، ذلك أن الناس هناك على درجة من الوعي تجعلهم يقدرون أن وقت المحامي أو المستشار القانوني يساوي المال و أن أي دقيقة إلا و تقدر بثمن، لذلك ترى المحامين أو مقدمي الخدمات في أوروبا و الدول المتقدمة بمجرد دخول الشخص يبدؤون في إحتساب الزمن الذي يستغرقه من خلاله عداد خاص معد لهذا الغرض، وأتعاب الاستشارة تختلف بحسب المدة الزمنية التي يستغرقها الزبون , و أيضا بحسب أهمية النزاع و تشعباته و تعقيداته .

 


لذلك أظن أن المنشور الذي صدر عن هيئة المحامين بالدار البيضاء فيه توجه صحيح من ناحية المضمون , و من شان إعماله إعادة الاعتبار لدور المحامي المستشار , و أيضا تقوية مجال احتكار المحامي , و ترسيخ الأعراف و التقاليد المرتبطة بهذا النطاق , ناهيك عن ما يمكن أن تؤدي إليه من تصحيح لنظرة المجتمع عن ثقافة بيع الخدمات القانونية باعتبارها خدمات مؤدى عنها و ليست مجانية , و تعطى داخل المكاتب لأنها تترتب عنها مسؤولية المحامي بجميع أنواعها سواء التأديبية أو الجنائية أو المدنية . لذلك أتمنى أن تحذو باقي الهيئات حذو هيئة المحامين بالدار البيضاء و تقرر المنع الصريح لهذه الاستشارات المجانية , و أن تسير جمعية المحامين بالمغرب في نفس الاتجاه , و لما لا لا يتم ترسيخ هذا الاختيار تشريعيا من خلال الضغط و المطالبة بإدراجه في إطار قاعدة قانونية ملزمة في مشروع قانون المحاماة المقبل مثلما فعلت ذلك تشريعات مقارنة .

زر الذهاب إلى الأعلى